
كثيرون لا يعرفون أن علاقات الثقافة والفنون بين مصر وتونس لها جذور تاريخية عميقة، وفي تاريخ تونس الحديث عرفت تونس صولات وجولات لعميد المسرح العربي “يوسف بك وهبي” الذي كان يتردد على كامل المنطقة المغاربية مع فرقة رمسيس، والتي كان من ضمن أفرادها الملحن المصري “سيد شطا” الذي كان صديقا للزعيم التونسي “الحبيب بورقيبة”، والذي توطدت علاقتهما معا خلال فترة وجود “الحبيب بورقيبة” في مكتب المغرب العربي في 10 شارع ضريح سعد، والذي انتقل فيما بعد إلى شارع المناخ – عدلي حاليا. ومع حقبة استقلال تونس، استقدم الزعيم “الحبيب بورقيبة” صديقيه الملحنين “السيد شطا” والشيخ “أمين حسنين” إلى تونس، إذ كان “بورقيبة” مثقفا من طراز رفيع، مدركا لأهمية الثقافة والفنون خاصة في مرحلة التأسيس بعد الاستقلال، ليستوطن الملحنان تونس ويصبحا من أهم الجسور بين البلدين.
ولا يمكن أن تنسى ذاكرة الشعبين الاستقبال الأسطوري الذي أعده “الحبيب بورقيبة” لكوكب الشرق أم كلثوم، التي استقبلها بحرس الشرف كالملوك والرؤساء، ليطوف بها في الطريق من المطار في سيارة مكشوفة. ولا تنمحي من الذاكرة التونسية أغنية العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ “يا مولعين بالسهر” التي أعدها خصيصا لعيد ميلاد الزعيم بورقيبة، ولا حفله الرائع في مدينة طبرقة، حيث استقبل الفنانون التونسيون عبد الحليم استقبالا حافلا. وما زالت الذاكرة التونسية تتذكر زيارة عميد الأدب العربي طه حسين، وحرص كبار الفنانين من مصر على التواصل مع الشعب التونسي الذواق، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر: نجاة الصغيرة، وشهرزاد، ومحمد رشدي، وشفيق جلال، الذي أهدى الشعب التونسي أغنية “شلوننا” التي أبدعها خصيصا لجمهوره التونسي.
أما المسرحي العظيم الأستاذ زكي طليمات، الذي أسس فرقة بلدية تونس واكتشف سيدة المسرح التونسي “سعدية الوسلاتي – منى نور الدين” أطال الله بقاءها، فحرص على تأسيس وإرساء قواعد المسرح العربي في كل البلدان العربية التي شعر أن تربتها خصبة إبداعيا. ولم يتوقف أبدا الأخذ والعطاء بين مصر وتونس فنيا وثقافيا، خاصة في الحقبة المعاصرة، حيث احتضنت واستقبلت مصر عشرات الفنانين التونسيين، بدءا من الفنانات الكبيرات “حبيبة مسيكة” و”حسيبة رشدي”، والفنان الكبير “محمد الجموسي”، وليس انتهاء بفنانين من الطراز الرفيع والمتميز مثل لطفي بوشناق، وصابر الرباعي، وذكرى محمد، وهند صبري، وظافر العابدين، ودرة زروق، وعائشة بن أحمد، كل في مجاله، وهذا على سبيل المثال لا الحصر.

وحرصا على استمرار تدفق نهر الإبداع في الثقافة والفنون بين مصر وتونس، حرصت مصر على المشاركة في الدورة 59 من مهرجان قرطاج العريق بوفد فني مميز تمثل في الفرقة القومية للفنون الشعبية، التي قدمت عرضا حظي بإعجاب جمهور مهرجان قرطاج الدولي يوم الحادي عشر من شهر أغسطس – أوت الجاري، وحفل “كلثوميات” للفنانة المتألقة مي فاروق يوم السادس عشر من شهر أغسطس – أوت الجاري، والذي نفدت تذاكره منذ فترة طويلة، حتى أنها أصبحت تباع بأضعاف ثمنها خارج شبابيك التذاكر المعتمدة.

وحرصا من سعادة السفير المصري في تونس، السفير/ باسم حسن، على تأكيد دعم سياسة الدولة المصرية لقواها الناعمة، وتدعيم أواصر المحبة والصداقة والتعاون مع الشقيقة تونس، وبمبادرة كريمة منه، أقام السفير المصري حفلا للاستقبال وعشاء على شرف الوفد المصري المشارك في مهرجان قرطاج، برئاسة المخرج الفنان/ خالد جلال، رئيس قطاع الإنتاج الثقافي، نائبا عن معالي وزير الثقافة المصري، والفنانة/ مي فاروق والوفد المرافق. دُعي إليه عدد من رموز الفن والثقافة والسياسة في تونس، كان في مقدمتهم الفنان الكبير لطفي بوشناق، والمطربة المتميزة آية دغنوج، ورؤساء مؤسسات الإذاعة والتلفزة، والرموز الإعلامية السيدة/ عواطف الدالي، والإذاعي/ مختار بالعاتق، مدير مهرجان دقة الدولي، الذي أحيت مي فاروق على خشبته العام الماضي حفلا ناجحا، كما حضر الحفل عدد من رؤساء وممثلي البعثات الدبلوماسية في تونس، في مقدمتهم سعادة سفيرة دولة الإمارات، وأصحاب السعادة سفراء المغرب، وفلسطين، وإندونيسيا، والمملكة المتحدة.
مع نسمات المتوسط الرائعة، كان الحضور يتنفسون عبق الأنغام وأريج الألحان بصوت مي فاروق وهي تشدو بالأغاني الخالدة لسيدة الغناء العربي أم كلثوم. ثم وجه السفير المصري/ باسم حسن كلمة قصيرة ورقيقة رحب فيها بالحضور، وأشار فيها إلى أن الفن يستطيع تحقيق ما لا تحققه السياسة، داعيا الحضور للتخفف من أعبائها خلال تلك السويعات القليلة، وتناول عشاء مصريا يحمل في طياته كرم بلادنا، حيث لأواصر المحبة والإخوة والعيش والملح مكان. وكرر ترحيبه بمبدعي مصر الذين أقيم الحفل على شرفهم تقديرا لهم، ولرسالة الحق والخير والجمال التي يحملونها إلى الأشقاء في تونس. وقد طغت نسمات النغم التي تنفسها الحضور على حرارة الطقس في أغسطس – أوت، بفضل حميمية تلك الليلة المشهودة التي حرص على تنظيمها سفير وطني محترم ونشيط يليق بحجم أم الدنيا التي أهدت للعالم فجر الضمير مصر.