

يقدّم الفنان التشكيلي السوداني عصام عبد الحفيظ تجربة فنية متفرّدة تُشكّل إضافة بارزة إلى المشهد التشكيلي السوداني المعاصر، إذ يزاوج في فنه بين التعبيرية التجريدية والواقعية في بناء بصري عميق ينطوي على فكر وحساسية إنسانية عالية تجاه القضايا الوطنية والاجتماعية.
تقوم رؤيته على فكرة أن التجريد ليس نقيضاً للواقعية بل ذروتها، لذلك تنبثق لوحاته من محاولة واعية للموازنة بين الحضور المألوف للعناصر الواقعية وبين انفتاح الفضاء التجريدي، لتصبح اللوحة ساحة للتأويل تتجاوز الوصف المباشر إلى فضاء يتيح للمشاهد استكشاف ما وراء الشكل من دلالات ورموز. وتبدو هذه المزاوجة في تراكيبه اللونية الغنية التي تتحرك بين الكثافة والتوازن، وفي حسّه المعماري الدقيق في توزيع الكتل والفراغات، بحيث تكتسب اللوحة بُعداً درامياً نابضاً بالحركة.
يعتمد عبد الحفيظ على الألوان الزيتية كخامة مفضلة لما تمنحه من قدرة على التراكم والتكثيف. وتتميّز أعماله بانفجار لوني دافئ يهيمن عليه الأحمر والبرتقالي والأصفر الترابي، تتخلله ومضات من الأسود والأبيض في تناغم يشي بالسكينة والقلق في آن واحد. ورغم ما يبدو من عفوية، فإن تنظيمه الدقيق للتكوينات يكشف عن وعي جمالي عميق يُحوّل الفوضى إلى نظام بصري بديع ومتزن.

في تجربته بالأبيض والأسود، تتجلّى أقصى درجات التعبيرية والتجريب، إذ يبني تكويناته على تفاعل ديناميكي بين الخطوط والمساحات، حيث تتحوّل الخطوط الحرة المشحونة بطاقة شعرية إلى بنية متوترة تتقاطع فيها الرموز مع الظلال. الوجوه والأجساد لا تُظهر بالكامل، بل تُلمّح إليها بإشارات وانكسارات خطية توحي بذاكرة متشظية ووجدان يتناثر بين الحضور والغياب. السواد الكثيف والفراغات المتناوبة يشيان بطبقات شعورية تتراوح بين القلق والتأمل، وتفتح أمام المتلقي قراءة فلسفية للزمن والهوية والمصير الإنساني.
تتميّز تقنيته بجرأة تجريبية تتبدى في التقطيع والمسح واللطخات العفوية التي تُعيد تعريف مفهوم الجمال، فلا يكون الصفاء غاية بقدر ما يصبح القلق نفسه عنصراً جمالياً. وبهذا المعنى، فإن أعمال عصام عبد الحفيظ لا تندرج ضمن المدرسة التجريدية فحسب، بل تشارك في حوار عالمي حول علاقة الإنسان بالذاكرة والذات والآخر، مع احتفاظها بجذرها السوداني العميق الذي يتغذى من بيئته وناسه وأحلامهم.
تُظهر تجربة عصام عبد الحفيظ نضجاً فكرياً وبصرياً يجعل من أعماله أكثر من مجرد لوحات جميلة؛ إنها نصوص مفتوحة تتجاوز حدود الشكل لتصل إلى جوهر الوجود الإنساني. فبفضل قدراته التعبيرية، ومرجعيته الثقافية، والمزاوجة بين الانفعال والاتزان، استطاع أن يكوّن بصمته الخاصة في الفن السوداني المعاصر. إن لوحاته دعوة بصرية للتأمل في الفوضى المنظمة للحياة، ولرؤية العالم بعينٍ ترى في اللون والخطّ لغةً للمقاومة والجمال والبحث عن المعنى.
كمال هاشم. اكتوبر 2025