يقتضي النظر في مفهومَي العقل العملي والعقل البرهاني في التراث الإسلامي، كما أعادا صياغتهما كلٌّ من محمد عابد الجابري وطه عبد الرحمن، تجاوزَ مجرد المقارنة المدرسية بين رجلين وامتدادين معرفيين، إلى مساءلةٍ للكيفية التي تشكَّل بها العقل العربي في عمقه الإبستمولوجي، وما إذا كان هذا العقل يحمل في داخله قابليةً لتأسيس معيارية جديدة تُنقذ الفكر من الدوران حول ذاته وتردّه إلى فعاليته القصوى. إن العقل بما هو أداة للتمييز، لم يكن في تاريخ الفكر الإسلامي محايدا أو مجرّد آلية استدلال، بل كان دوما مشدودا إلى مقاصد، مرتبطا بالقيم، محمولًا على خلفيات لسانية وروحية، بحيث يصبح البحث في أنماطه بحثا في شروط إمكان النهضة الفكرية ذاتها. ومن هنا فإن استئناف التفكير في العقل العملي والعقل البرهاني يندرج ضمن محاولة لالتقاط البنية العميقة التي حكمت تشكّل الفكر الإسلامي، وإعادة قراءة ما سمّاه الجابري «العقل العربي» وما سمّاه طه عبد الرحمن «العقل المعياري» بما يتجاوز سطح الخلاف ليصل إلى جوهر المسألة الفلسفية.
لقد رأى الجابري أن العقل في التراث الإسلامي يتوزع بين العقل البرهاني والعقل البياني والعقل العرفاني، وأن تاريخ الثقافة العربية قد مال إلى تغليب البيان والعرفان على البرهان، فيما أدى ذلك– وفقا له –إلى تعطيل شروط تكوّن عقل علمي قادر على ممارسة النقد وتكوين المفاهيم. فالبرهان عند الجابري، هو النمط الذي يجسّده ابن رشد بوصفه عقلا قائما على القواعد الأرسطية: البرهان والقياس وانتظام المقدمات، والرجوع إلى الواقع المحسوس. أما طه عبد الرحمن فقد اعترض على هذه القراءة معتبرا أنها اختزلت العقل في مجرّد شكل من أشكال التفكير الأداتي، وأغفلت البعد الروحي والأخلاقي الذي كان يحكم الممارسة العلمية والعملية للمسلمين. فالعقل كما يراه طه ليس آلة برهانية صمّاء، بل هو قوة مكلّفة، تستمدّ صلاحيتها من ارتباطها بالقيم، وتكتسب مشروعيتها من انخراطها في العمل الأخلاقي. وعلى هذا الأساس يقيم طه نظريته في «العقل المعياري» الذي يتأسس على مبدأ أن الفكرة لا تحقق تمام معناها إلا حين تكون عاملة في الوجود، منخرطة في إصلاح الذات والعالم، مجسِّدةً ما يسميه «الخلق النظري».
وإذا كانت الفلسفة الغربية قد ميزت كما عند كانط، بين العقل النظري والعقل العملي، فإن هذا التمييز لم يكن مجرد تقسيم بين مجالين وظيفيين، بل كان تعبيرا عن التحول الجذري في النظر للإنسان باعتباره ذاتا عاقلة وفاعلة، تخضع في فعلها الأخلاقي لقانون تستمده من داخلها لا من خارجها. وقد ألهم هذا التمييز كلا من الجابري وطه، وكلّ منهما ذهب به إلى وجهة مختلفة. فالجابري رأى ضرورة إقامة قطيعة إبستمولوجية مع أنماط التفكير غير البرهانية، لأنه اعتبر أن النهضة لا يمكن أن تقوم إلا على عقلانية صلبة تعيد وصل الفكر العربي بتراثه الرشدي وتستمدّ شرعيتها من تاريخ العقل العلمي العالمي. أما طه فقد رأى في هذا المنحى تغريبا للعقل الإسلامي، لأن البرهان لا يكتمل إلا إذا أُسند إلى الأخلاق، وأن العقل الفاعل لا يبلغ الحقيقة إلا إذا كانت هذه الحقيقة صالحة للعمل، وأن العقل لا يكون عقلا إلا بمقدار ما يحفظ «حقّ الغير» ويستحضر «الأمانة» بوصفها أساس التكليف.
ويظهر الاختلاف بينهما بجلاء في الطريقة التي ينظران بها إلى التراث نفسه. فبينما يرى الجابري أن التراث إذا لم يُقرأ قراءة نقدية سيظل عقبة أمام التطور، في حين يؤكد طه عبد الرحمن أن التراث ليس مجرد مادة ميتة، بل هو طاقة روحية وأخلاقية يمكن أن تتجدد باستمرار إذا أعيد وصلها بالاجتهاد العملي. الجابري يدعو إلى «نقد العقل»، وطه يدعو إلى «ترشيد العقل بالخلق». الجابري يقيم العقل البرهاني باعتباره عقلا كونيا، خارجا عن أي حمولة دينية، فيما يرى طه أن العقل الذي ينفصل عن القيمة يصبح غير جدير بالعمل وغير صالح لإنتاج معرفة تحرّرية. واللافت أن هذا الخلاف لم يكن خلافا في النتائج فحسب، بل كان خلافا في منهج النظر ذاته: فالجابري يتخذ من التحليل التاريخي البنيوي طريقا إليه، أما طه فيعتمد على التحليل المفهومي الأخلاقي المستند إلى المنطق التداولي.
ومع ذلك، فإن تأمّل المسألة يكشف أن العلاقة بين العقل العملي والعقل البرهاني ليست علاقة تناقض، بل علاقة تكامل يُفترض أن تُبنى عليها إمكانية التفكير الفلسفي الإسلامي المعاصر. فالعقل البرهاني كما هو عند ابن رشد أو عند الجابري، يمنح المعرفة صرامتها ومنطقها الداخلي وقدرتها على مقاومة التهافت، والعقل العملي يمنح هذه المعرفة غايتها، ويجعلها فاعلة في العالم. ولعلّ الفلسفة الإسلامية التي ازدهرت في القرون الوسطى لم تكن سوى محاولة للربط بين هذين البعدين، كما يظهر ذلك عند الفارابي في سعيه للجمع بين الحكمة والشريعة، وعند ابن سينا في النظر إلى العقل الفعّال باعتباره قوة تهدي السالك في مساره الوجودي، وعند الغزالي الذي رأى أن البرهان لا يكتمل إلا إذا كان مقدمة لعمل القلب وإصلاحه. وفي هذا السياق، يقف الجابري وطه بوصفهما امتدادين مختلفين لهذا التراث: امتدادا يُعيد بناء العقل على أساس العلم، وامتدادا يعيد بناءه على أساس القيمة.
ويبدو أن العقل المعياري كما صاغه طه عبد الرحمن، ليس ردّا بسيطا على العقل البرهاني، بل هو محاولة لإعادة الاعتبار للفعل الأخلاقي في قلب النشاط الفكري. فطه يرى أن العقل ليس عقلا إلا إذا كان «مؤيّدًا بالقيمة»، وهذا ما يجعله يتجاوز التمييز الكانطي بين العقل النظري والعقل العملي، إذ يعتبر أن النظر ذاته فعل أخلاقي، وأن التفكير الذي لا يحمل أثرا في الواقع لا يعدّ تفكيرا كاملا. في المقابل، فإن مشروع الجابري رغم تركيزه على البرهان، لم يكن غافلا عن أهمية العقل العملي، بل كان يرى أن الإصلاح السياسي والاجتماعي يحتاج إلى عقلانية، وأن النهضة لا تتحقق إلا حين يترجم الفكر نفسه إلى مشروع سياسي ثقافي قادر على تغيير البنية الاجتماعية. وهذا يقود إلى السؤال الأعمق: هل يمكن أن يلتقي العقل البرهاني والعقل العملي في خطواحد؟ أم أن الخلاف بين الجابري وطه هو خلاف جذري لا سبيل إلى تجاوزه؟
إن الإجابة تقتضي إدراك أن العقل المعياري، من منظور فلسفة الأخلاق المعاصرة، هو في جوهره نقد لنموذج الأداتية الذي طبع الحداثة الغربية منذ ديكارت، حيث غدا العقل وسيلة للسيطرة على الطبيعة بدل أن يكون طريقا لفهم الوجود. وهو نقد قريب مما طرحه هابرماس حين تحدث عن «العقل التواصلي» بديلا عن «العقل الأداتي»، مسجّلا أن العقل لا يكتسب معناه إلا حين يكون موجّها للحوار ولتحقيق الإجماع الأخلاقي. وفي هذا السياق، يمكن قراءة طه عبد الرحمن باعتباره يقدّم بديلا إسلاميا للنماذج الغربية، يقوم على الوحدة بين الفكر والعمل، وعلى مركزية الأخلاق في كل فعل معرفي. أما الجابري فرغم تركيزه على البرهان، فقد كان نقديا تجاه العقل الأداتي أيضا، لكنه رأى أن تجاوز الأداتية لا يكون بنقد البرهان، بل بنقد البنى التقليدية التي عطّلت العقلانية وأفرغت البرهان من مضمونه العلمي.
وعلى هذا الأساس، يصبح فهم العقل في التراث الإسلامي رهينا بفهم الصورة التي يقدمها كلّ من الجابري وطه عن الذات الإنسانية. فالجابري يرى الإنسان كائنا تاريخيا يتحدّد وعيه داخل بنيات معرفية تتطلب تفكيكا، بينما يراه طه كائنا مكلّفا، يحمل في داخله قدرة على الارتقاء الروحي، وتُعدّ الأخلاق جزءا من بنيته الوجودية. وفي هذا الاختلاف تظهر الأبعاد الكبرى للمسألة: العقل عند الجابري يطلب الحقيقة من خلال تحليل البنية، وعند طه يطلب الحقيقة من خلال إصلاح الذات. وإذا كان توماس كارلايل يرى أن «الفكر الذي لا يتحوّل إلى فعل ليس له قيمة»، فإن طه يذهب أبعد، إذ يرى أن الفعل نفسه هو جزء من بنية العقل، وليس مجرد نتيجة له. أما الجابري فيرى أن الفعل يحتاج إلى رؤية عقلانية، وأن إصلاح الفكر هو الشرط الأول لإصلاح الواقع.
وهكذا يتبين أن المقارنة بين العقل العملي والعقل البرهاني ليست مجرد دراسة في تاريخ الأفكار، بل هي إعادة طرح لسؤال «ما العقل؟» في سياق عربي إسلامي يبحث عن مخرج من ثنائياته: بين التراث والحداثة، وبين الروح والعلم، وبين الأخلاق والسياسة، والوجود والمعنى. وقد يكون في الجمع بين العقل البرهاني والعقل المعياري إمكانية لبناء نموذج معرفي جديد يغادر النزاعات النظرية ليؤسس عقلا قادرا على العمل، وعملا قادرا على التفكير، عقلا لا يفصل البرهان عن القيمة، ولا يعزل النظر عن الفعل. وهذا يتطلب إعادة قراءة الجابري وطه معا، لا بوصفهما خصمين، بل بوصفهما إمكانين فلسفيين يتقاطعان في السؤال الكبير: كيف يمكن للعقل أن يكون معيارا للمعرفة وموجّها للعمل في آن واحد؟ وكيف يمكن أن نعيد وصل الفكر الإسلامي بقدرته التاريخية على إنتاج نماذج عقلية خلاقة تجمع بين الصرامة والمنفعة، بين الحكمة والفضيلة، وبين البرهان والروح؟
إن العلاقة بين العقل العملي والعقل البرهاني عند الجابري وطه عبد الرحمن تتجاوز حدود الاختلاف المنهجي إلى مساءلة البنية العميقة للعقل الإسلامي، وإن استئناف التفكير في هذه العلاقة يستدعي الانتقال من تشخيص البنية إلى تحليل شروط إمكان تجديد هذه العقلانية ذاتها. فالسؤال الذي طرحه الجابري بصيغته النقدية: «كيف نفكر؟» والسؤال الذي طرحه طه بصيغته الأخلاقية: «كيف نكون؟» لا يمثلان في الحقيقة سوى وجهين لصراع فلسفي أوسع بين نموذج للمعرفة يجعل الحقيقة غاية في ذاتها، ونموذج يجعل الحقيقة قيمةً تتجسد في الفعل. ومن ثمّ فإن الجمع بينهما لا يكون بدمج قسري بين رؤيتين، بل بإعادة تأويلهما في ضوء مطلب أكسيولوجي جديد يُعيد للعقل مكانته دون أن يجرده من حمولته الأخلاقية.
إنّ أحد أبرز مظاهر هذا التعقيد يظهر في الطريقة التي يستثمر بها الجابري مفهوم «العقل البرهاني». فهو ينظر إلى البرهان بوصفه عماد التفكير العلمي، ويعتبر أن العقل العربي في مساره التاريخي قد همّش هذا النمط لصالح البيان والعرفان، ما أدى –في رأيه– إلى اختلال في البنية الذهنية العربية. ومن هنا جاء مشروعه لإعادة بناء العقل وفق استراتيجية «القطيعة»، التي استلهمها من باشلاروفوكو. فالقطيعة عنده ليست مجرّد رفض للتراث، بل هي عملية تحليلية تستهدف إعادة ترتيب البعد المعرفي بما يسمح بتأسيس عقل نقدي. غير أنّ هذه الاستراتيجية رغم صرامتها، تحمل في داخلها حدّا لا يخفى: إنها تقيم البرهان معيارا أعلى، لكنها لا تمنح مساحة كافية للعقل العملي بما هو قدرة على التخلّق وصناعة المعنى الأخلاقي. فالبرهان بمفرده ليس قادرا على إنتاج نظام قيمي، إذ يبقى محايدا تجاه مسائل الإرادة والمسؤولية.
أما طه عبد الرحمن فقد ذهب في اتجاه معاكس تقريبا، إذ أعاد الاعتبار للعقل العملي بوصفه محورا لميلاد «العقل المعياري». وقد رأى أن العقل الذي ينفصل عن الأخلاق يفقد القدرة على توجيه الإنسان في سيره نحو الحقيقة. ولذلك لم تكن نظريته في العقل المعياري مجرد دفاع عن الأخلاق، بل كانت بناء فلسفيا يعيد تشكيل العلاقة بين المعرفة والقيمة. ففي كتاباته لا يمكن تصور عقل بلا أمانة، ولا معرفة بلا عمل، ولا برهان بلا أثر في السلوك. وهذا ما جعله يؤكد أن التفلسف الحق هو الذي يزكي النفس ويُصلح العالم، وأن التفكير الذي لا يرتبط بالخلق يظلّ ناقصا مهما بلغت دقته. وهنا تتبدّى أصالته في إعادة تعريف العلاقة بين النظر والعمل، إذ لم يعد العمل نتيجة للفكر، بل أصبح الفكر ذاته ضربا من ضروب العمل.
تبرز أهمية هذا التحول عند طه إذا ما وضعناه في سياق الفلسفة المعاصرة. فالنقاش الدائر حول «أزمة العقل» منذ مدرسة فرانكفورت وحتى هابرماس يدور حول المعضلة ذاتها: هل العقل أداة للسيطرة أم طريق للتحرّر؟ وهل الأخلاق جزء من بنية العقل أم مجرد مستوى خارجي يُضاف إليه؟ لقد حاول هابرماس تجاوز هذا الإشكال بالحديث عن «العقل التواصلي»، الذي يجعل التواصل الأخلاقي أساسا لبناء الحقيقة المشتركة. أما طه فيذهب إلى أبعد من ذلك لأنه لا يكتفي بالتواصل، بل يجعل التكليف أصلا لكل عقل. التكليف هنا ليس أمرا دينيا فحسب، بل هو بُعد وجودي يرى الإنسان مسؤولا عن العالم ومسؤولا عن نفسه، وبالتالي فالمعرفة ليست مجرد اكتشاف، بل هي نوع من التحمل الأخلاقي.
لكن رغم هذه الفوارق، فإن التأمل في المشروعين يكشف أن كلاهما يحاول بطريقته تجاوز الأزمة نفسها: أزمة الفصام بين الفكر والعمل. فالجابري يريد عقلا برهانيا فعالا في إصلاح الواقع السياسي والثقافي، وطه يريد عقلا معياريا قادرا على إصلاح الذات والوجود. إنّ ما يفصل الرجلين هو زاوية النظر لا الهدف النهائي. والزاوية هي التي تحدد المعنى. وهذا يقودنا إلى السؤال الأعمق: كيف يمكن للعقل الإسلامي أن يستعيد وحدته بعد هذا التمزّق بين البرهان والخلق؟ وكيف يمكن للتراث أن يصبح مصدرا لتحديث العقل دون أن يُفرغ من روحه؟
الجواب يقتضي النظر إلى التراث نفسه بوصفه مجالا للصراع بين إمكانات عديدة، لا بين نزعتين متعارضتين. فحين يعود الجابري إلى ابن رشد، فهو لا يقرأه بوصفه فيلسوفا فحسب، بل بوصفه ممثلا لتقليد برهاني قادر على تقديم نموذج ينقل العقل من مرحلة البيان إلى مرحلة العلم. بينما يعود طه إلى الغزالي وابن عربي ليبحث عن نموذج يُعيد وصل المعرفة بالأخلاق والروحانية. وكلا النموذجين صحيح من حيث المبدأ، لأن التراث الإسلامي كان بالفعل يحتوي على هذين الاتجاهين. فالمدينة الفاضلة عند الفارابي هي المشروع ذاته الذي يجمع بين العقل العملي والعقل البرهاني، بينما الغزالي قضى عمره في محاولة لجعل البرهان خادما للتزكية الروحية. أما ابن رشد فرغم صرامته البرهانية، لم يكن غافلا عن دور السعادة الإنسانية بوصفها غاية فعلية للممارسة الفلسفية.
لذلك، فإن إعادة قراءة التراث ليست عملية انتقاء بين اتجاهين، بل هي محاولة لبناء جسر بينهما. وهنا تبرز فكرة «العقل المعياري» باعتبارها قابلة للتوسّط بين «العقل البرهاني» و«العقل العملي». فمن جهة، تمنح المعيارية العقل قدرة على نقد ذاته، ومن جهة أخرى تمنحه القدرة على العمل الأخلاقي. وهذا ما يجعل العقل المعياري، كما يتصوره طه امتدادا أو تصحيحا لمفهوم البرهان كما يتصوره الجابري. وقد يكون هذا الشكل من التفكير هو ما يحتاجه العقل العربي اليوم: عقل يتصف بالتحقيق البرهاني، لكنه لا يفصل التحقيق عن التسديد الأخلاقي.
ولعل النقطة التي تبرز فيها إمكانية الجمع بين المشروعين تتعلّق بمفهوم الحرية. فالجابري ينظر إلى الحرية من زاوية تاريخية، بوصفها تحرّرا من البنية التقليدية ومن أنماط التفكير غير العلمية. أما طه فيراها تحررا من جبرية النفس، ومن الانسياق وراء الشهوات، ومن الخضوع لما يسميه «الاستبداد الروحي» الذي يسلب الإنسان استقلاله الأخلاقي. هذه الازدواجية في فهم الحرية تعكس الازدواجية في فهم العقل ذاته: حرية البرهان هي تحرّر من اللامعقول، وحرية المعيار هي تحرّر من اللامسؤولية. لذلك فإن الجمع بينهما قد يمنحنا تصورا أكثر اكتمالا للحرية، يربط بين الوعي النقدي والوعي الأخلاقي، بين استقلال الفكر واستقلال الإرادة.
إنّ هذه القراءة المزدوجة للعقل تفتح مجالا لفهم أعمق لشروط النهضة الفكرية. فإذا كان الجابري يؤكد أن النهضة لا يمكن أن تقوم دون نقد جذري للعقل التقليدي، فإن طه يؤكد أن النهضة لا تتم إلا إذا كانت أخلاقية في أصلها، لأن الأخلاق هي ما يمنع المعرفة من التحول إلى أداة للهيمنة. وربما كان ابن خلدون قد سبق الجميع حين قال إن العقل «ميزان»، ولكنه أيضا «قيد»، بمعنى أنه يزن الأشياء بقدر ما يقيّد الأهواء. فالعقل الذي لا يقيد الهوى يظل ناقصا، حتى لو كان برهانيا. وهذا المعنى هو جوهر العقل المعياري كما يطرحه طه، وهو في الآن ذاته شرط للبرهان كما يطرحه الجابري. فالعقل لا يكتمل إلا إذا جمع بين الدقة والعدل، بين العلم والأمانة.
وبذلك يتضح أن العلاقة بين العقل العملي والعقل البرهاني، كما ظهرت عند المفكرين المعاصرين، ليست علاقة تناقض مطلق، ولا علاقة تطابق، بل علاقة شدّ وجذب تُعيد التفكير العربي إلى أسئلته الأصلية: ما معنى أن نفكر؟ وما معنى أن نعمل؟ وهل يكفي أن نبرهن كي نكون عقلانيين؟ أم يجب أن نكون أخلاقيين كي نصبح عقلانيين؟ هذه الأسئلة تستعيد صدى قول سقراط: «إن المعرفة فضيلة»، أي إن المعرفة لا تنفصل عن العمل الصالح. وهو القول الذي حاول الجابري تأويله في ضوء صرامة العلم، وحاول طه تأويله في ضوء سموّ الأخلاق. فكان أن التقيا من حيث لا يقصدان، في ضرورة إعادة نصب العقل على أساس يجمع بين العلم والعمل.
إن نقطة البدء في هذا الاستشراف هي إدراك أن العقل في التجربة الإسلامية الكلاسيكية، لم يكن في أي لحظة عقلا مقطوعاعن الفعل، ولا الفعل كان خاليا من التسديد العقلي. ولذلك نجد أن الفلاسفة المسلمين –حتى الأكثر انحيازا إلى النظر الخالص–لم يفصلوا بين الفضيلة والمعرفة؛ فالفارابي حين يضع فلسفته السياسية، يجعل من الحكيم صفحةً تُقرأ من خلالها مواطن السعادة، وابن سينا حين يتحدث عن «العقل المستفاد» يربطه بالترقي الروحي، والغزالي حين يقدّم مشروعه النقدي يجعل من البرهان طريقا للتخلّص من الأوهام لا لمجرد تمييز المقدمات. هذه الوحدة بين النظر والعمل هي التي تجسدت بأشكال مختلفة في كل مراحل التاريخ الفكري الإسلامي، لكنها تراجعت حين انتقلت الفلسفة الحديثة إلى فضاء يجعل العقل موضوعا في ذاته، منفصلا عن الأخلاق.
وقد حاول الجابري استعادة الصرامة البرهانية التي رأى أنها كانت تمثّل ذروة هذا التراث عند ابن رشد، فيما حاول طه استعادة روح الأخلاق التي رأى أنها تمثل جوهر هذا التراث عند الغزالي وابن عربي. لكن التجربة الفكرية المعاصرة تحتاج إلى وحدة أكبر من وحدة الماضي، لأنها تواجه أسئلة جديدة تتجاوز قدرة البرهان وحده وقدرة الأخلاق وحدها. وفي هذا السياق، يصبح البحث عن نموذج توفيقي ليس ترفا فكريا، بل ضرورة لإعادة تأسيس العقل في بيئة تتداخل فيها التكنولوجيا بالمعنى والسياسة بالروح، والعلم بالقيمة.
ولعل أول ملامح هذا النموذج تتمثل في إعادة تعريف وظيفة العقل. فالعقل ليس مجرد ملكة لإنتاج المعرفة، ولا مجرد قوة لتوجيه السلوك، بل هو–في أعمق تجلياته– قدرة على إقامة صلة بين الإنسان والعالم، بين الذات والغير، وبين الحاضر والمستقبل. وأي نموذج فلسفي يطمح إلى الجمع بين البرهان والخلق ينبغي أن يجعل من هذه الصلة محورا لعمل العقل. فالبرهان يحدد صدق الأفكار، والمعيار يحدد صلاحها، وبين الصدق والصلاح تنشأ علاقة جديدة للمعرفة، علاقة تجعل المعرفة ذات معنى في الوجود. وهذا ما عبّر عنه بول ريكور حين تحدث عن «الذات القادرة»، أي تلك الذات التي لا تكتفي بأن تعرف، بل تقدر على تحويل المعرفة إلى فعل يتجسّد في العالم ويتحمّل مسؤوليته.
بناء على هذا، يصبح العقل البرهاني مكوّنا ضروريا، لا لأنه وحده قادر على إنتاج العلم، بل لأنه يحمي المعرفة من الوقوع في الارتجال والخلط. لكن هذا العقل لا يكون مكتملا إلا حين يندمج بالعقل العملي المعياري الذي يحوّل المعنى إلى التزام، ويجعل المعرفة مسؤولية. ومن هنا تنشأ الحاجة إلى تصور جديد يجعل العقل مكوّنا مزدوجا: برهانيا في أدواته، معياريافي غاياته.
غير أنّ هذا الدمج لا يمكن أن يكون ميكانيكيا، ولا يمكن أن يُفهم بوصفه جمعا خطيا بين معيارين. فالبرهان يتأسس على قواعد صارمة منطقية، بينما يتأسس العمل الأخلاقي على مبادئ تختلف في طبيعتها. ومن ثمّ، فإن بناء نموذج توفيقي ينبغي أن يقوم على مستوى أعمق من المستوى المنهجي: مستوى فلسفة الإنسان. فالسؤال هنا هو: أي صورة للإنسان يمكن أن تجمع بين قدرة التفكير وواجب العمل؟ وأي ذات يمكن أن تتسع للعلم والخلق معا دون أن ينفي أحدهما الآخر؟
يبدو أن الإجابة، كما تبرز من المقارنة بين الجابري وطه، تكمن في تصور الإنسان بوصفه «ذاتا مسؤولة»، أي ذاتا تعرف لأن عليها أن تعمل، وتعمل لأنها تعرف. وهذا ما يجعل المعرفة والمسؤولية صورتين لجوهر واحد. وقد كان هذا المعنى هو ما لمّح إليه ابن طفيل في «حي بن يقظان»، حين جعل المعرفة متحدة بالسلوك الروحي، لا من حيث إن الروحانية بديل عن العقل، بل لأنها فضاء تتحقق فيه المعرفة كحال وجودي. وهكذا يتضح أن جمع البرهان بالمعيار هو عودة إلى جوهر الإنسان في الفكر الإسلامي: ذلك الكائن الذي يجمع بين القدرة على الاستدلال والقدرة على التكليف.
إن الخطوة الثانية في بناء النموذج التوفيقي هي إعادة تعريف العلاقة بين العقل والتراث. فالخلاف بين الجابري وطه لا يكمن في تقديرهما للتراث بقدر ما يكمن في الطريقة التي ينبغي أن يُقرأ بها. الجابري يرى أنه يجب أن يُقرأ قراءة تاريخية نقدية تكشف بنياته. وطه يرى أنه يجب أن يُقرأ قراءة تداولية أخلاقية تكشف روحه. والجمع بين هذين المنهجين يقتضي فهم التراث بوصفه طبقات متعددة: طبقة بنيوية يمكن تحليلها بصرامة، وطبقة قيمية يمكن استنطاقها بروح. ومن ثم فإن «العقل المعياري البرهاني»–إن صح التعبير– لا يقطع مع التراث ولا ينغلق عليه، بل يعيد بناءه بطريقة تجعل منه مصدرا للعلم ومصدرا للخلق في آن واحد.
أما الخطوة الثالثة فترتبط بالعلاقة بين العقل والمستقبل. فالعقل البرهاني عند الجابري كان موجّها نحو تحديث البنية الذهنية للإنسان العربي. بينما العقل المعياري عند طه موجّه نحو تجديد الذات الأخلاقية. لكنّ المستقبل يتطلب الاثنين معا: تحديثا للبنية وتحديثا للذات. وهذا ما يجعل المشروعين قابلين للتكامل في مشروع أكبر يتوجه نحو صياغة عقل يواجه تحديات العالم الجديد: الذكاء الاصطناعي وتحولات العلم وانقلاب القيم وأزمة المعنى. إنّ العقل الذي نحتاجه اليوم ليس العقل الذي يجيب عن أسئلة الماضي فقط، بل العقل الذي يصوغ أسئلة المستقبل، ويعيد تأسيس القيم داخل حركة العلم ذاتها.
وهنا يمكن الإشارة إلى أنّ الفلسفة الإسلامية إذا أرادت أن تستأنف دورها الحضاري، ينبغي ألا تكتفي بتكرار ثنائيات البرهان والبيان أو العقل والنقل، أو العلم والدين، بل أن تؤسس لنموذج عقلاني جديد يجعل من الأخلاق قواما للعلم، ومن العلم أداة لتحرير الأخلاق من الوعظ المجرد. وهذا هو جوهر العقل المعياري كما يراه طه، وهو في الوقت نفسه شرط لكي يستعيد البرهان دوره في النهضة كما يراه الجابري.
إن النموذج التوفيقي الذي نبحث عنه ليس فلسفة وسطية ضعيفة تجمع بين النقيضين بطريقة شكلية، بل هو نموذج مبني على توتر خلاق بين بعدين: الصرامة والجدوى. ولعلّ الفيلسوف الألماني هانس يوناس قد عبّر عن هذا التوتر حين صاغ «مبدأ المسؤولية»، قائلا إن العلم وحده لا يكفي لتوجيه الفعل الإنساني، وإن الأخلاق وحدها لا تستطيع مواجهة تحديات التقنية ما لم تصبح عقلانية. وهذا المبدأ يمكن أن يُقرأ اليوم في ضوء مشروعَي الجابري وطه: الأول يمدّ العقل بالصرامة، والثاني يمدّه بالمسؤولية، والمستقبل يطلب الصرامة والمسؤولية معا.
وبذلك يظهر أن النموذج الممكن للعقل الإسلامي المعاصر هو نموذج «العقل البرهاني المعياري»: عقل يدقق قبل أن يحكم، ويُحسن قبل أن يجادل، ويمتزج فيه نور البرهان بحرارة التكليف. عقل يربط المعرفة بالعدل، والعدل بالحقيقة، والحقيقة بالفعل، بحيث يصبح كل ضرب من ضروب التفكير إضافةً إلى الوجود لا انفصالا عنه.
وعند هذا الحد يمكن القول إنّ الفلسفة التي يستشرفها هذا النموذج ليست فلسفة تكرار، بل فلسفة استئناف. فالعقل الذي يجمع بين البرهان والخلق هو عقل قادر على أن يجعل من التراث طاقة للمستقبل، ومن الأخلاق قوة معرفية، ومن المعرفة قوة أخلاقية. وهو عقل لا يعد فيه التفلسف ترفا، بل يصبح حاجة وجودية.