
ارتبطت عندي صورة الجرامافون الأول بذاكرة الطفولة، وهو يتكىء على منضدته في الغرفة ذات الجدران العالية والمشربيات الخشبية ببيت جدي، وكان هو أول من يقتنيه في مدينتنا “بنها” شمال القاهرة، وكان حين يتحدث عنه يسميه “الماكينة”.
اعترف لي جد أنه كان لا يقضي وقتا طويلا معه، وأن ليالي السمر كانت قليلة بسبب الانشغال في العمل والسفر. هذه الذكريات لجدي المولود في ثلاثة ثلاثة ثلاثة، أي الثالث من مارس سنة 1903، دفعتني أن أسجل معه منذ 35 سنة لقاء كان محوره ما كان يسمعه على الجرامافون.
وفي سفري اللاحق، كان مشهد الجرامافون آسرا، ما أن أراه حتى أسعى لاقتنائه، وكأنني أستعيد صورا شاحبة من الطفولة. لهذا اشتريت واحدا في مومباي، كانت زيارتي الأولى هناك حين ذهبتُ إلى السوق في قلب مدينة أراها تجمع بين القاهرة والإسكندرية معًا. وقفتُ أمام هذا الجرامافون أفكّر في كيفية حمله معي على متن الطائرة. ببساطة، قسمته إلى جزأين، ثم أُعدت تركيبهما لاحقًا في الكويت، وهو الآن في القاهرة. ورغم أنه كان يعمل يدويًا، فقد أصبح جزءًا من ديكور أحد أركان البيت، لكنه ما زال يذكّرني بتلك الجولات في بقعة هندية، ببوقه الكبير، وجسده الخشبي المثمَّن، ويده المعدنية التي تحرك أسطوانته.
وفي رحلتي الألمانية، قبل عشر سنوات، كنا نزور الملاعب التي ستستضيف نهائيات كأس العالم، وتوقفنا لدى سوق شهرية، يقيمها الأعضاء على جدار ناديهم، يبيعون فيها مقتنيات قيّمة، كاللوحات والأنتيكات والأجهزة القديمة ومنها البيك أب، ابن عم الجرامافون، الذي يعمل بالكهرباء أو البطارية، حيث انتشر بين جيل السبعينيات والثمانينيات الخروج والغناء في البراري، وعليه استمعت إلى أسطوانات الفينيل التي اقتنيتها من عواصم عربية وغربية، ومنها ما طبع في القاهرة ونشر في بيروت وصدر في طهران وأنتج في باريس، وفيها ما تشدو عليها أم كلثوم وداليدا وتحتفظ بألحان عبد الوهاب وسيد مكاوي.
النوستالجيا هي التي تجعلنا ننفق الوقت في تحضير الجرامافون فنستغرق زمنا أطول من مدة الأغنية على وجهي الأسطوانة، بسرعتيها المختلفتين، لكنها نوستالجيا لا تدوم طويلا، حيث نعود بعدها إلى العالم الرقمي بكل ما فيه من تراث موسيقي بلا حدود.
استقر الجرامافون الهندي فوق الصندوق الخشبي الذي اشتريته من الكويت، وكان يعود لعروس قبل سبعة عقود، تحتفظ فيه بمقتنياتها الثمينة. والقناع في الصورة حديث، يحمل ملامح آسيوية. واللوحة المؤطَّرة بالخشب تُصوّر أميرًا يسبح مع مرافقيه، وقد نُحتت الأجساد العارية فيها من العاج. والوشاح من كوجارات، بينما الجلباب الأبيض من السودان، ويشبه الزيّ الأبيض المنتشر في شبه القارة الهندية
طلبت من جدي آنذاك أن ينشد لي بعضا من الأدوار التي كان يسمعها على جرامافونه، فاعتدل وقال بصوت عاطفي رخيم:
“قال يا ترى يا بنت الناس قد ما أحبك تحبيني؟
ولا محباك كدا بس ساعتين تشوفيني؟
ردت: وسيدي أحمد شفيع ديني،
أنا الورد وانت الماء بتسقيني،
إن غبت دَبِّلتني، وان جيت بتحييني!”
وختمها كعادته: يللا يا عم!



